عرض لأبرز مكامن الخلل البنيوي في النظام اللبناني التي أوصلتنا الى الانهيار
"لبنان ليس وطن بل مجموعة أوطان" مقولة يرددها اللبنانيون واللبنانيات في مختلف المناطق وفي جميع الحقبات وهي وليدة النظام السياسي اللبناني الذي لطالما أعطى الأولوية إلى الإنتماء الطائفي على حساب الانتماء الوطني الجامع. منذ ما قبل نشأة دولة لبنان الكبير، كانت الطوائف المكون الأساسي للسلطة ضمن تحالف مع إقطاع يمتلك الأراضي ويحتكر أساليب الإنتاج. هذا التحالف بين الإقطاع والطوائف تحكّم بمقابض السلطة بمعاونة ودعم قوى إقليمية ودولية لتستمر معادلة الحكم الضمنية هذه حتى بعد اتفاق مكوناته على عقد إجتماعي صوري مع دستور سنة ۱٩٢٦. استمر ذلك المشهد بالرغم من التعديلات التي طرأت على العقد الإجتماعي الصوري بُعيد الإستقلال عبر الميثاق الوطني سنة ۱٩٤٣ مروراً بوثيقة الوفاق الوطني التي عرفت بالطائف في العام ۱٩٩۰ وصولاً الى إتفاق الدوحة في العام ٢٠٠۸ الذي كرس الديموقراطية التوافقية بين الطوائف كمبدأ أساسي لحكم البلاد.
كل التعديلات لم تنجح في تطوير عقد اجتماعي فعلي لأنه مهما اختلف اللاعبون والدساتير، قواعد اللعبة لم تتغير يوماً. عقدنا الاجتماعي نشأ وتعدّل في مختلف الحقبات ليس للتأسيس لواقع جديد ينتشل البلاد من دوامة الصراعات بين الطوائف ليعيد بناء العلاقات بين الحاكم والمحكوم على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون؛ بل كانت التعديلات مجرد انعكاس لتطوّر موازين القوى بين الطوائف وتكريساً لامتيازات "الغالب" بعد الصراعات والحروب الأهلية. نظامنا كان ولازال عصيّاً على التغيير والتقدم ولو اختلفت المواثيق الأساسية أو تعدل العقد الإجتماعي، وذلك لأن الدستور والمؤسسات الدستورية المنبثقة عنه لم تكن يوماً مراكز للحكم وصنع القرار بل مجرد أدوات لتنفيذ مقررّات الطوائف وزعماءها. من دستور سنة ۱٩٢٦ حتى الطائف إلى الدوحة، عقدنا الاجتماعي لم يكن سوى صورياً. ولعل أكبر مثال من تاريخنا الحديث على فشل الدستور ومؤسساته ما عرف بطاولة الحوار التي جمعت حولها قادة الأحزاب الممثلة للطوائف الكبرى لتصبح مداولاتها ومقرراتها بمثابة القانون الأعلى والوحيد للبلاد الذي يتخطى الدستور ويفرّغ المؤسسات الدستورية من أي قيمة فعلية في صنع القرار وممارسة الحكم.
"لبنان ليس وطن بل مجموعة أوطان" مقولة يرددها اللبنانيون واللبنانيات في مختلف المناطق وفي جميع الحقبات وهي وليدة النظام السياسي اللبناني الذي لطالما أعطى الأولوية إلى الإنتماء الطائفي على حساب الانتماء الوطني الجامع. منذ ما قبل نشأة دولة لبنان الكبير، كانت الطوائف المكون الأساسي للسلطة ضمن تحالف مع إقطاع يمتلك الأراضي ويحتكر أساليب الإنتاج. هذا التحالف بين الإقطاع والطوائف تحكّم بمقابض السلطة بمعاونة ودعم قوى إقليمية ودولية لتستمر معادلة الحكم الضمنية هذه حتى بعد اتفاق مكوناته على عقد إجتماعي صوري مع دستور سنة ۱٩٢٦. استمر ذلك المشهد بالرغم من التعديلات التي طرأت على العقد الإجتماعي الصوري بُعيد الإستقلال عبر الميثاق الوطني سنة ۱٩٤٣ مروراً بوثيقة الوفاق الوطني التي عرفت بالطائف في العام ۱٩٩۰ وصولاً الى إتفاق الدوحة في العام ٢٠٠۸ الذي كرس الديموقراطية التوافقية بين الطوائف كمبدأ أساسي لحكم البلاد.
كل التعديلات لم تنجح في تطوير عقد اجتماعي فعلي لأنه مهما اختلف اللاعبون والدساتير، قواعد اللعبة لم تتغير يوماً. عقدنا الاجتماعي نشأ وتعدّل في مختلف الحقبات ليس للتأسيس لواقع جديد ينتشل البلاد من دوامة الصراعات بين الطوائف ليعيد بناء العلاقات بين الحاكم والمحكوم على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون؛ بل كانت التعديلات مجرد انعكاس لتطوّر موازين القوى بين الطوائف وتكريساً لامتيازات "الغالب" بعد الصراعات والحروب الأهلية. نظامنا كان ولازال عصيّاً على التغيير والتقدم ولو اختلفت المواثيق الأساسية أو تعدل العقد الإجتماعي، وذلك لأن الدستور والمؤسسات الدستورية المنبثقة عنه لم تكن يوماً مراكز للحكم وصنع القرار بل مجرد أدوات لتنفيذ مقررّات الطوائف وزعماءها. من دستور سنة ۱٩٢٦ حتى الطائف إلى الدوحة، عقدنا الاجتماعي لم يكن سوى صورياً. ولعل أكبر مثال من تاريخنا الحديث على فشل الدستور ومؤسساته ما عرف بطاولة الحوار التي جمعت حولها قادة الأحزاب الممثلة للطوائف الكبرى لتصبح مداولاتها ومقرراتها بمثابة القانون الأعلى والوحيد للبلاد الذي يتخطى الدستور ويفرّغ المؤسسات الدستورية من أي قيمة فعلية في صنع القرار وممارسة الحكم.
إن على أي بلد، ولا سيما بلد صغير بحجم لبنان، أن ينمّي صداقات مع محيطه والعالم، لتحفيز اقتصاده وتمكين شبكة علاقاته الديبلوماسية، على أن تبقى هذه الصداقات مبنية على أسس احترام السيادة المتبادلة في صنع قراراته الداخلية والخارجية. أما في لبنان، فنرى أن قرارته لم تكن يوما سيادية بل مرتبطة بشكل وثيق بعلاقاته مع الخارج ان كان خلال حقبة الاستعمار أو الانتداب قبل الاستقلال، أو خلال مراحل الوصاية والاحتلال المباشر والغير مباشر من بعده. فإن نظرنا في تاريخ لبنان حتى يومنا هذا، نرى أنه بقي على اختلاف المراحل مرتهناً في حياته السياسية للخارج، إن كان لدول عربية أو غربية؛ ولقد قدم كل فريق سياسي، ماضياً أم حاضراً، ولاءه للخارج عبر دولة عرّابة، كسوريا واسرائيل ومصر والخليج العربي بتنوعه، وإيران وتركيا وليبيا والعراق، وصولاً إلي أوروبا وأمريكا وروسيا. ولطالما سمح هؤلاء الساسة أن تستبيح هذه الدول لبنان وتجعل أرضه ساحة خصبة لنزاعاتهم، فأقحموا شعبه في صراعات وحروب لا تعنيه. ولم يقف الارتهان عند هذا الحد، بل امتد إلى مرحلة الحلول السياسية والاقتصادية التي لم يستطع الساسة اللبنانيون أن يتوافقوا عليها بدون رعاتهم الإقليميين والدوليين. فكانت المؤتمرات من لوزان فالطائف والدوحة إلى ورقة الرئيس الفرنسي ماكرون، كما جولات الاستدانة والتسول في باريس ١ و٢و ٣ وصولاً إلى مؤتمر سيدر. ولمعرفة عمق هذا الارتهان ومدى ترسخه في عقلية الحاكم، بإمكاننا العودة إلى عام ١٨٦١ عند توقيع البروتوكول الذي أنهى حرباً بين المسيحيين والدروز، جاعلاً من فرنسا راعية للطائفة المارونية، روسيا للأورثوذكس، النمسا للكاثوليك، انكلترا للدروز ومبقياً الطائفتين السنية والشيعية تحت سلطة تركيا. هذا النظام الذي قسم البلاد لمحميات طائفية ظل قائماً حتى يومنا هذا.
ولا نستطيع أن نقرأ في هذا الارتهان المريب إلا أن السياسيون المفترض أنهم مؤتمنون على الوطن لا يولون الأهمية لمصلحة لبنان وشعبه، بل انهم ينطلقون من مصالحهم الشخصية لـمراكمة الثروات وتمكين قواعدهم الحزبية عبرتغليب مصالح البلاد التي ارتضوا الارتهان لها، جاعلين من لبنان والشعب اللبناني ورقة تفاوض يبيعونها بالمزاد العالمي.
التأسيس لاقتصاد مزدهر هو من أولويات الحكم، فهو المحور الأساسي للبرامج الانتخابية و السبب الرئيسي في نجاح أو فشل الحكومات. الاقتصاد المزدهر مبني على الاستثمار في القطاعات المنتجة و قدرة البلد، مهما كان حجمه و موارده، على الانتاج والتصدير و خلق فرص العمل وتحفيز النمو المستدام. أما في لبنان، المشهد معاكس تماماً حيث أن الإقتصاد لم يكن يوماً على سلم أولويات أهل الحكم، فهو لطالما كان يرتكزعلى الاحتكارات والامتيازات وعلى تغليب النموذج الريعي الذي يحفّز استيراد رؤوس الأموال عبر الإستدانة والهندسات المالية، وتصدير العمالة، والاعتماد على تحويلات المغتربين وعلى إيرادات قطاعي السياحة والخدمات و لا سيما القطاع المصرفي الذي أصبح شريكاً للسلطة السياسية عبر تمويل سياساتها الاقتصادية التي أدت إلى انهيار الاقتصاد وتبخّر أموال المودعين.
ولقد أهملت الطبقة السياسية الحاكمة استثمارالمال العام في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة وحماية المنتجات اللبنانية على الصعيد المحلي وإيجاد الأسواق العالمية لتصديرها عبر اتفاقيات دولية، بل أهدرته بالزبائنية وأشبعته سرقة وفساد. كما أن انشغال الطبقة السياسية في الفساد والنزاعات الحزبية والطائفية على مغانم الدولة وعلى تحاصص المشاريع والشركات الخاصة وممارسة الاحتكار المقونن كلها أسباب رئيسية حالت دون وجود شبكة البنى التحتية الضرورية لتحفيز وتطوير القطاعات الإنتاجية واستقطاب الاستثمارات الاجنبية المفيدة والموجهة.
الدولة في النظام اللبناني ليست سوى غنيمة يتقاسمها زعماء الطوائف في الحرب والسلم وذلك لأن سلطة الأحزاب الطائفية قائمة على شبكات مصالح وخدمات وتنفيعات مصدرها الأساسي الدولة والإدارات والمصالح العامة. الكيانات السياسية والزعامات التي تمثّل الطوائف تستقطب التأييد وتحافظ على تمثيلها الشعبي عبر تطويع الدولة وإداراتها ومنح الوظائف العامة (والخاصة) لمؤيديها فتضرب مبدأ الكفاءة في الولوج الى المنصب العام أو الوظيفة وتستبدله بمعيار الولاء للزعيم والطائفة.
تغييب الكفاءة وتغليب الأزلام جعل الدولة بعظم مؤسساتها وإداراتها ومصالحها وكر لتوظيف الفشلة والفاسدين ومحاربي الميليشيات لتصبح الإدارة العامة رمز للفساد وعنوان للفشل في تسيير شؤون المواطن ومقبرة للموظفيين الكفوئين. مع مرّ العقود تجذرت سيطرة الطوائف وأحزابها على الدولة بحيث أصبحت الوزارات والإدارات محميات خاصة لهذا الزعيم أو ذاك بشكل جعل علاقة المواطن أو المواطنة بالدولة و إداراتها تمر بشكل إلزامي بالزعيم وحزبه. هذا الواقع عزز الزبائنية وثقافة "الخدمات السياسية" وجعل من الولوج إلى الخدمة العامة امتياز يمنحه زعيم، لا حق تكرّسه وتكفله القوانين. الغاية من السيطرة على مفاصل الدولة لا تقتصر على تأمين الوظائف وتثبيت القواعد الشعبية. بل أن الغاية الأساسية هي الإستيلاء على ثروات الدولة ومواردها عبر الفساد الممنهج الذي يمتد من المشاريع الكبرى التي يقرها مجلس الوزراء الى المناقصات في أصغر الدوائر الحكومية. وهنا تبرز أهمية المحاصصة الطائفية، فتوزيع المغانم في الدولة وخصوصاً في الشؤون والمشاريع الكبرى التي تستلزم عدة موافقات أو تواقيع (كالمراسيم مثلاً) تُحَتّم على أركان الحكم التوافق فيما بينهم على مقدار الحصص. ولعل ما يجهله الكثيرون هو أن معظم الخلافات -التي تطوّر بعضها إلى نزاعات- بين أحزاب الطوائف سببها الأساسي ليس سياسياً أو إيديولوجياً بل مجرد تعذّر التوافق على حصة كل طرف في عملية تقاسم الثروات المحققة من الخزينة العامة - أي من أموال الشعب اللبناني.
تعتبر العدالة في جميع الأنظمة الديمقراطية، من أهم المبادئ الواجب تحققها لنجاح تجربة الحكم؛ والعدالة تقتضي أن يعلو القانون فوق الجميع في العلاقات بين الأفراد من جهة وبين الحاكم والمحكوم من جهة أخرى. أما في لبنان، فالعدالة نسبية وانتقائية تُستحضر وتُغَيّب لخدمة مصلحة من يتحكم بها. نلحظ ثلاثة أبعاد لواقع تغييب العدالة ومبدأ الإفلات من العقاب في لبنان وهي تتمحور حول تهميش وتطويع السلطة القضائية، الحصانات القانونية والدستورية وحصانات الأمر الواقع.
البعد الأول يتمثل بتهميش السلطة القضائية -تماماً كالدستور- فهي صورية ومجرّدة من أهم شروط فعاليتها وهي إستقلاليتها عن سائر السلطات. القضاء في لبنان يخضع بشكل كامل للسلطة التنفيذية ولا سيّما عبر آليات تعيين القضاة في مناصبهم ومحاكمهم. يشكل غياب حكم القانون وتطويع القضاء حاجة وجودية للنظام اللبناني القائم وذلك لعدة أسباب. أولاً، نظام المحاصصة الطائفي يحتّم عدم خضوع عمل المؤسسات الى أي شكل من أشكال الرقابة القانونية. فأن أي رقابة فعلية ستعرّض أعمال هذه المؤسسات للبطلان ومسؤوليها للعقاب وتوقف عجلة الفساد والقرارات الغير قانونية التي ترتكز عليها. ثانياً، امتد نظام الخدمات التي تقوم عليه زعامات الطوائف ليشمل "الخدمات القضائية" التي يقدمها الزعيم إلى أزلامه وقواعده الحزبية؛ واستمرارية هذه الخدمات تقترن باستمرارية خضوع القضاء لسلطة المحاصصة الطائفية.
البعد الثاني يتمثل بالحصانات القانونية والدستورية، حيث يعتمد النظام السياسي اللبناني على سلسلة مواد دستورية وقوانين وتشريعات كقوانين الحصانات والسرية المصرفية والنقد والتسليف وغيرها لمنح حصانات مقوننة تمتد من رئيس الجمهورية إلى الموظف الرسمي بشكل يضع هؤلاء فوق المساءلة والمحاسبة. وهذا يسهّل قيامهم بالأفعال الغير قانونية لاستمرار وتوسّع شبكات المصالح والخدمات والتنفيعات التي تقوم عليها سلطتهم.
أخيراً، البعد الثالث يتمثل بحصانات الأمر الواقع التي تستفيد منها فئة المقربين من القادة والزعماء بدأً من عائلاتهم وأصدقائهم ووصولاً إلى الحزبيين وكبار المتمولين وشركائهم في الأعمال وغيرهم. ما يميّز هذه الفئة بالتحديد هي تمتّعها بحصانة الأمر الواقع بمباركة الزعيم وعلى الرغم من غياب أية حصانة قانونية. كما أن هذه الفئة تتمتع بسلطة مباشرة على ملف التعيينات القضائية بحيث غالبأً ما تتفرد بتلك التعيينات وتالياً بالخدمات ذات الطابع القضائي فتراكم رصيد سلطتها وثروتها وتدعّم حصانتها غير القانونية.
"العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، قول يعرفه الجميع، ولكن من فهمه بدرجة امتياز هي الأحزاب اللبنانية، الطائفية والعقائدية، فأنشأت المدارس والجامعات والمعاهد والحركات الكشفية، أو بسطت سلطتها على تلك القائمة منها عبر مناهج خاصة او عبر الكادر التعليمي أو عبر السطو على هيئات الطلاب والأساتذة فيها. كما أن هذه الأحزاب وبالتواطؤ مع الحكومات ومجالس النواب المتعاقبة، حرصت على عدم إنماء المدارس والجامعات والمعاهد الرسمية الى درجة حرمان تلك المؤسسات التربوية العامة من الهبات والمساعدات، بينما تزدهر وتتكاثر المؤسسات التربوية الخاصة لا سيما تلك التابعة للأحزاب والطوائف. وبطبيعة الحال، تصبح المدارس والجامعات البيئة المناسبة لتنشئة الأجيال الصاعدة على مفاهيم الأحزاب والطوائف والعقائد بدلاً أن تكون البيئة الحاضنة لتعليم وترسيخ مفاهيم المواطنة والهوية الوطنية الجامعة.
ومن هذا المنطلق نفهم أيضاً عدم رغبة الأحزاب في تطوير مناهج التربية الوطنية والمدنية أو حتى التوافق على كتابة تاريخ موحد للبنان. من الجدير بالذكر أيضاً حالة الفساد والمحاصصة في التراخيص الممنوحة للعديد من المدارس والجامعات والمعاهد الخاصة التي لا تعطى على قاعدة الكفاءة والمنهاج والحاجة بل على قاعدة المنفعة والتجارة، فانتشرت هذه المؤسسات بشكل عشوائي وانتشرت معها فضائح بيع الشهادات وغيرها. ان تدمير البنى التحتية التربوية لم يكن وليد الصدفة بل كان عملاً ممنهجاً من قبل المنظومة الحاكمة على مرّ العهود لترسيخ سلطتها القائمة على الانتماء الطائفي والعقائدي وتغييب الهوية الوطنية.
من ركائز العدالة الاجتماعية هو حصول المواطنات والمواطنين على الفرص والخدمات التي تقدمها الدولة بشكل متساوٍ وبدون أي تمييز.
أما واقعنا في لبنان فيرتبط بعنوان الإنماء المتوازن الذي لطالما ردده أهل السياسة والحكم من دون أية نتائج فعلية أو ملموسة. لمقاربة هذا الموضوع لا بد أولاً من التشديد على أن الإنماء يرتبط مباشرةً بالعامل البشري، أي بحياة الإنسان ومستوى الخدمات التي تقدمها له الدولة من طبابة وسكن وتعليم وفرص العمل وغيرها. أما الإنماء المتوازن فهو يتعلق بالجغرافيا بحيث تكون الخدمات المؤمنة للمواطنات والمواطنين ومقومات العيش متساوية بشكل عام بين مختلف المناطق. في لبنان وعبر مقارنة بسيطة بين مستوى ونوعية تلك الخدمات بين المدن الرئيسية ومختلف المناطق اللبنانية الأخرى ولاسيما الريفية وتلك الواقعة في الأطراف يمكننا أن نستنتج وبشكل غير قابل للتأويل أن الإنماء يقتصر على العاصمة المركزية وبعض المدن والمناطق الأخرى التي تشكل مراكز قوة وثقل في معادلات الطوائف وأحزابها. الإنماء في لبنان والحق في الحصول على الفرص والخدمات لا يرتبط بالمواطنة بل يتعلق عضوياً بشبكات مصالح الطوائف والمذاهب وأهمية المنطقة بالنسبة لزعيم هذه الطائفة أو تلك. ويبقى "الإنماء المتوازن" شعار يعيد إحيائه أهل الحكم قبل الإنتخابات ليبقى مادة للاستهلاك الإنتخابي وبث الأمل الزائف في نفوس أهل المناطق المحرومة.
ضعف وغياب الدولة وانعدام قدرتها على حماية اللبنانيات واللبنانيين ولاسيما بعد اندلاع الحرب الأهلية ادى الى نشوء العديد من المجموعات المسلحة التي أخذت على عاتقها مهام ردع الاعتداءات الخارجية وحماية وتوسيع مناطق نفوذها في الداخل.
أمام هذا الواقع اُستبدلت مفاهيم الدفاع الوطني والحفاظ على الأمن القومي التي تحتكرها الدولة بقواها المسلحة، بمفاهيم المقاومة الشعبية والأمن الذاتي التي قامت على معايير ايديولوجية او طائفية. ولقد أدى ذلك الى ربط قدرات لبنان الأمنية والدفاعية بطائفة او خط سياسي معين وجعلها عرضة للاستهداف بعد أي اشتباك سياسي بين الطوائف أو الاحزاب أو رعاتهم الإقليميين والدوليين. أصبحت العديد من المليشيات بمثابة قوى أمن وحكم ذاتي في مناطق نفوذها مع ما يستتبع ذلك من إنتهاكات مارستها عناصرها بحق أهالي وسكان المناطق من فرض خوات على المحال والمتاجر وصولاً إلى الاعتقالات خارج إطار القانون والخطف والتصفيات الجسدية بحق المواطنات والمواطنين. رغم تصدر حزب لله قائمة القوى المسلحة خارج إطار الدولة ومؤسساتها اليوم نظراً لتعاظم قوته وتوسع قدراته العسكرية، إلا أن المشكلة الفعلية تتعدى هذا الحزب ومناطق نفوذه. فثقافة الحكم الذاتي والمناطق الخارجة عن سيطرة الدولة تنتشر على الأراضي اللبنانية من بعض الشوارع والأزقة والأحياء في العاصمة وضواحيها الى المخيمات الفلسطينية وبعض المناطق الجبلية وصولاً الى البقاع والشمال والجنوب والحدود البرية. وليس هذا التفلت للسلاح وثقافة الدويلات والحكم الذاتي حتى بعد إنتهاء الحرب الأهلية، سوى واقع تحرص السلطة الطائفية على ترسيخه عبر اللجوء الى سياسة التخوين والتخويف من الآخر، أكان طرفاً داخلياً ام خارجياً، وذلك للمحافظة على قوتها في مقابل ضعف الدولة.